الرئيسية / اقتصاد / فنلندا بلد الرقمنة والسعادة

فنلندا بلد الرقمنة والسعادة

في أوائل شهر ديسمبر الحالي ، قام وفد من الصحفيين من مختلف أنحاء العالم برحلة إلى العاصمة الفنلندية هلسنكي للغوص في قلب المجتمع الرقمي الفنلندي. فمن خلال لقاءات رسمية رفيعة المستوى، وتبادلات مع وزراء — لا سيما وزيرة الخارجية السيدة إيلينا فالتونن ووزير التجارة السيد ساكاري بوستو — بالإضافة إلى خبراء وأصحاب مؤسسات وفاعلين في مجال الابتكار، أتاحت هذا الزيارة الفرصة لفهم الأسباب التي جعلت فنلندا تعتمد الرقمنة كركن أساسي في نموذجها التنموي.

كما سلطت الزيارة الضوء على الطريقة التي تعتمد بها فنلندا اليوم على الدبلوماسية التكنولوجية لبناء شراكات قوية مع الدول الصديقة، قائمة على التعاون والاحترام المتبادل.

مجتمع أصبح فيه الرقمي حلاً جماعياً

منذ وصولنا إلى الأراضي الفنلندية وعبورنا بالمطار تجلى بوضوح أن الرقمنة ليست مجرد واجهة عرض، فهي لا تقتصر على الخدمات أو العروض التكنولوجية، بل تشكل بنية متكاملة في جميع مفاصل المجتمع. فالحياة اليومية تعتمد بشكل كبير على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، التي تغطي جميع جوانب الحياة من النقل إلى الصحة، ومن التعليم إلى الترفيه.

من الخدمات العامة إلى التعليم، ومن الأمن إلى الابتكار الصناعي، تُعتبر الرقمنة أداة لتعزيز الكفاءة والمساواة والاستدامة.

ويتميز النموذج الفنلندي بشكل خاص بالتماسك الكامل في التحول الرقمي؛ فلا توجد فجوة بين الطموحات السياسية، والقدرات التكنولوجية، واستخدامات المواطنين. فالرقمنة مفهومة ومسيطر عليها وموثوقة من قبل السكان، بفضل مستوى عالٍ من الثقافة الرقمية وعلاقة ثقة قوية بين الدولة والمواطنين.

استراتيجية وطنية على أعلى مستوى

يعتمد التحول الرقمي الفنلندي على رؤية سياسية واضحة ومؤكدة. وقد أبرزت اللقاءات التي جمعتنا مع المسؤولين الحكوميين نهجًا عمليًا ومنظمًا ومتجهًا نحو المستقبل.

فالسلطات الفنلندية تعتبر الرقمنة الثورة الصناعية الكبرى القادمة، وترى فيها وسيلة لتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية وأداة أساسية لمعالجة تحديات عالمية رئيسية مثل التحول البيئي، الأمن، السيادة التكنولوجية، شيخوخة السكان، والمرونة الديمقراطية.

وتجسد مشاركة الوزراء رفيعي المستوى — لا سيما وزيرة الخارجية وزير التجارة — في حوارات معمقة مع ممثلي الإعلام الأجنبي الأهمية الاستراتيجية لهذه القضايا بالنسبة لفنلندا.

وبعيدًا عن الخطابات النظرية، سمحت هذه اللقاءات بقياس مدى نضج التفكير الفنلندي في موضوعات معقدة مثل الذكاء الاصطناعي، وحوكمة البيانات، والأمن السيبراني. كما أبرزت الرغبة الفنلندية في تعزيز التعاون مع جميع الدول، مع التركيز على التعددية، والأمن، والتنمية المستدامة، والمساعدات التنموية، والشراكات الاستراتيجية الثنائية، مع ترسيخ قيم الشفافية والحوار وحل الأزمات سلمياً، بالاستفادة من خبرة فنلندا كدولة محايدة تاريخيًا.

النظام البيئي التكنولوجي: محرك نموذج متوازن

خلال مراحل الرحلة، اكتشفنا أن فنلندا نجحت في بناء نظام بيئي تكنولوجي كثيف وفعال، قائم على تعاون وثيق بين القطاع العام، الجامعات، مراكز البحث، والشركات الخاصة. ويعد هذا التعاون أحد أعمدة نجاحها.

حيث لا يتم تطوير التقنيات المتقدمة — مثل الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمومية، الأمن السيبراني، الاتصال المتقدم، والبيانات الضخمة — بشكل منفصل، بل في إطار تكاملي مع التركيز على الاستخدامات العملية والأثر الاجتماعي.

وقد مكن هذا النهج فنلندا من التميز كفاعل موثوق ومحترم على الصعيد الدولي، خاصة في المجالات الحساسة مثل الأمن الرقمي، البنى التحتية الحيوية، التقنيات الفضائية ذات الاستخدام المدني والاستراتيجي، بالإضافة إلى التنمية المستدامة.

الابتكار والاستدامة والمسؤولية

جانب آخر لافت خلال الرحلة هو الطريقة التي توفق بها فنلندا بين الابتكار التكنولوجي والمسؤولية البيئية. إذ يُستخدم الرقمي لتقليل البصمة البيئية من خلال تحسين الموارد، إدارة المباني بذكاء، وتعزيز الاقتصاد الدائري.

وتتجلى هذه البعد التنموي — الذي يسعى إلى مزج التقدم الاقتصادي، العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة لتلبية احتياجات الحاضر دون المساس بحقوق الأجيال القادمة — في جميع الخطابات الرسمية والاستراتيجيات التي اطلعنا عليها، مما يعكس فهمًا شاملاً للتحديات المعاصرة.

الدبلوماسية التكنولوجية: جسر بين فنلندا وتونس

سلطت الزيارة الضوء أيضًا على جانب استراتيجي غالبًا ما يُغفل في السياسة الخارجية الفنلندية: الدبلوماسية التكنولوجية، وهي نقطة التقاء بين التكنولوجيا والعلاقات الدولية، تهدف إلى استخدام الحوار والأدوات الرقمية لتعزيز الروابط بين هلسنكي وبقية العالم.

ولا تكتفي فنلندا بابتكار حلول للسوق المحلي، بل تعتمد على التعاون، وتبادل الخبرات، وإقامة شراكات مستدامة مع شركائها، بما في ذلك تونس.

وفي هذا السياق، تلعب السفارة الفنلندية في تونس دورًا محوريًا في تطوير العلاقات بين البلدين، حيث عملت تحت قيادة السفير النشط تيمو سيبّونن منذ توليه هذا المنصب سنة 2022 على تعزيز العلاقات الثنائية، لا سيما في مجالات التعليم، الابتكار، الرقمنة، والتنمية المستدامة، مع هدف واضح لبناء جسور، وتعزيز تبادل الخبرات، وتشجيع التعاون بين النظم البيئية.

وتأتي زيارة وزير الشؤون الخارجية التونسي، محمد علي النفطي، إلى هلسنكي في يونيو الماضي — وهي الأولى منذ أكثر من عشرين عامًا — في إطار تعزيز العلاقات الثنائية وتشجيع التعاون بين البلدين.

وقد تشهد هذه الشراكة دفعة أكبر مع الزيارة المرتقبة لرئيس جمهورية فنلندا، ألكسندر ستوب، إلى تونس، حيث تتوفر فرص كبيرة لتوطيد العلاقات وإقامة شراكة مستدامة قائمة على المصلحة المتبادلة والاحترام.

زيارة ملهمة إلى أسعد دولة في العالم

تجاوزت هذه الزيارة اللقاءات والتبادلات والاكتشافات التكنولوجية، حيث منحتنا منظورًا أوسع حول دور الرقمنة في مجتمعاتنا المعاصرة.

فالتكنولوجيا، مهما كانت متقدمة، لا معنى لها إلا إذا خدمت مشروعًا جماعيًا وشاملًا وإنسانيًا.

كما ساعدتنا على فهم سبب تصنيف فنلندا باستمرار كأكثر الدول سعادة في العالم، نظرًا لما توفره من مزيج فريد من العوامل الاجتماعية، الاقتصادية، والبيئية: مجتمع مستقر ينعدم فيه الفساد تقريبا، ثقة كبيرة بين المواطنين والحكومات، دعم اجتماعي ممتاز، حرية ومساواة عالية، توازن متناغم بين الحياة المهنية والشخصية، وارتباط عميق بالطبيعة، مما يعزز الرفاهية وجودة الحياة.

باختصار، تمثل فنلندا نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا فريدًا يجذب العالم ويشكل مصدر إلهام للعديد من الدول الساعية نحو التنمية.

نور بن مراد

شاهد أيضاً

إنطلاق فعاليات “ونتر وندرلاند جدة” أضخم تجربة شتوية في موسم جدة 2025

انطلقت اليوم الجمعة (19 ديسمبر) منطقة “ونتر وندرلاند جدة – Jeddah Winter Wonderland”، ضمن فعاليات …