(عربات / مركبات جِدعون) وبالعبرية (ميركافوت جِدعون) هذا هو اسم العملية الإسرائيلية العسكرية الكبيرة القائمة حالياً في غزة. وما استوقفني لأن أتحدث هذا اليوم حول هذه العملية هو دلالة هذا الاسم، وما يرمي إليه الكيان الصهيوني من وراء هذه العملية، وإسقاطاتُها الخطيرة جداً. (جِدعون) اسم أحد القضاة (الأمراء أو الأسباط) الذين قادوا بني إسرائيل من بعد النبيين موسى ويوشع بن نون (ع). وجِدعون يعني البطل (الكَدع)، وهو من أحفاد النبي يوسف (ع). ونجد قصته بدء من الإصحاح 6 من سِفر القضاة (الأسباط) حيث يذكر تخلّي الله تعالى عن نصرة بني إسرائيل بسبب انحرافاتهم وتمرّدهم إلى حدّ الشرك: (فَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ لِيَدِ مِدْيَانَ سَبْعَ سِنِينَ) مما اضطرّ بني إسرائيل إلى اللجوء للكهوف والحصون لحماية أنفسهم، كما أن أهل مدين -راكبي الإبل- وغيرهم آذوا بني إسرائيل اقتصادياً: (وَيُتْلِفُونَ غَلَّةَ الأَرْضِ إِلَى مَجِيئِكَ إِلَى غَزَّةَ، وَلاَ يَتْرُكُونَ لإِسْرَائِيلَ قُوتَ الْحَيَاةِ، وَلاَ غَنَمًا وَلاَ بَقَرًا وَلاَ حَمِيرًا). نتيجة ذلك، كان أن عاد بنو إسرائيل إلى رُشدِهم، ولجأوا إلى الله: (فَذَلَّ إِسْرَائِيلُ جِدًّا مِنْ قِبَلِ الْمِدْيَانِيِّينَ. وَصَرَخَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ). فأرسل إليهم جِدعون قائداً ومخلّصاً، فجمع جِدعون 32 ألف مقاتل، ولكن في المرحلة الأولى رجع منهم 22 ألفاً بسبب جُبنهم، ثم تمردت الغالبية المتبقية على أوامره، ولم يبق معه سوى 300 مقاتل، ووقعت المعركة مع المديانيين، وانتصر بنو إسرائيل، وأجلوهم من أرض كنعان بأكملهم، ولاحقوهم في الأردن، وقتلوا قادَتهم الأربعة، لينتهي المشهد كالتالي: (وَذَلَّ مِدْيَانُ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَعُودُوا يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ. وَاسْتَرَاحَتِ الأَرْضُ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي أَيَّامِ جِدْعُونَ). • إسقاطات الأحداث التاريخية: في بدايات العدوان الصهيوني على غزة بعد طوفان الأقصى، قُدِّم النتنياهو على أنه يوشع بن نون العصر، النبي القائد الفاتح، الذي حقّق الانتصارات على خصومه. ثم وظَّف نبوءة أشعياء ليوهِم الناس أن جيش الكيان يمثّل جيش النور، بينما المقاومة الفلسطينية تمثّل جيش الظلام، وأن جيش النور سينتصر في نهاية المطاف. إلا أن فشل جيش الكيان في تحقيق أهدافِه المعلَنة إلى حين الهدنة الأخيرة جعله يبحث عن قصص تاريخية وشخصيات دينية بديلة، ووجد مبتغاه في قصة جِدعون والمديانيين. بالطبع، هذه ليست المرة الأولى التي يقوم فيها الصهاينة بتوظيف هذه الشخصية وهذه القصة لصالحهم، فقد أطلقوا اسم (عملية جِدعون) على عملية إرهابية كبيرة قامت بها عصابات (الهاغاناه) قبيل انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين سنة 1948، وفي تلك العملية، تم احتلال مدينة بيسان والقرى والمخيمات البدوية المحيطة بها، وقَتْل وتهجير أهلِها بالكامل. وبذا، يقدِّم النتنياهو نفسه اليوم -من خلال عملية ميركافوت جِدعون- على أنه -جِدعون العصر- الذي أرسله الله مخلِّصاً بني إسرائيل من مديانيي العصر، الفلسطينيين، وذلك بالقضاء على قادة المقاومة، وإجلاء الناس من أرض كنعان، من فلسطين، إلى الأردن، أو إلى غيرها من البلاد، ومِن بعدها سيستريح (الكيان) أربعين سنة! وهو في نفس هذا الوقت، يُرسل رسائل إلى القوى المعارِضة له في الداخل الإسرائيلي، ومَن يطالبونه بإيقاف الحرب واستعادة الأسرى، بأنهم يمثلون فئة الجبناء الذين تخلّوا عن جِدعون، ولكنه مع ذلك حقَّق النصر على عدوّه، دون الحاجة إليهم. هذه هي دلالة التسمية، وهذه هي الخطة التي بدأت من بعد إنهاء الهدنة الأخيرة، وذلك بإقامة منطقة عازلة في جنوب غزة، وبمساحة تُقدَّر بخُمس القطاع، حيث تم تدمير كل شيء في هذه المنطقة، وتسويتها بالأرض، والخطوة الثانية هي دفع المتواجدين خارج هذه المنطقة للتوجه نحوها، وذلك من خلال القصف الوحشي، وتدمير ما تبقى من مستشفيات، ومراكز إيواء، ومباني، بالإضافة إلى سياسة التجويع، ومن ثم حصر توزيع الحصص الغذائية بطريقة أمنية في المنطقة العازلة ولمن يتجاوب مع سياسة التهجير التي يسمّونها زوراً وبهتاناً بسياسة (الهجرة الطوعية). وهكذا، تبدأ عملية التهجير -لمليون فلسطيني من أهل غزة في المرحلة الأولى- انطلاقاً من هذه المنطقة العازلة، يعقبها تصفية المقاومة بتدمير ما تبقى من أنفاقها وقدراتها. • الخلاصة: إنّ مَن يُدرك البُعدَين التاريخيَّ والدينيَّ لما سُمِّي بعملية (عربات جدعون) التي أطلقها الكيان الصهيوني مؤخراً، يُدرك أنها ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي مشروع سياسي- أمني- ديموغرافي، هدفُه الأساس: إخلاءُ غزةَ مِن أهلها، وإعادةُ السيطرة عليها، والقضاءُ على مقاومةِ الاحتلال فيها، ضمن ما يُطلق عليه زوراً عنوان (الهجرة الطوعية) والتي هي في حقيقتها تهجيرٌ قسريٌّ لأبناءِ الأرض، وتطهيرٌ عِرقي، وجريمةٌ بشعةٌ بحقِّ الإنسانية، بكل ما للكلمة مِن معنىً ودلالة قانونية، كل ذلك من خلال توظيفِ أبشعِ وسائلِ الإبادةِ الجماعية، قصفاً وحرقاً وقتلاً وتجويعاً. إنّ خطورةَ هذه الجريمةِ الكبرى لا تَكمن فقط في تداعياتها الإنسانية والديموغرافية فحسب، بل في كونها تعيد إنتاجَ مفهومِ (الشرعيةِ) و(الجريمةِ) و(الاحتلالِ) أمامَ مرأى ومسمعِ العالَمِ، مما يشكّل تحدياً صارخاً للقانون الدولي، ولمبادئ العدالة، وللضمير الإنساني… فهل مِن مجيب؟
*الشيخ علي حسن غلوم – مسجد سيد هاشم بهبهاني – الكويت