د.شريف بن محمد الأتربي
درجت العادة في بدايات التعليم المبكرة، وقبل ظهور المدارس والكتاتيب، أن يتعلم الأطفال على يد شيخ المسجد، حيث يتلو عليهم كتاب الله الكريم مرددا آياته مرات ومرات حتى يحفظونه حفظا، وتظل هذه الآيات محفورة في ذاكراتهم أبد الدهر ما لم يؤثر عليها متغير شخصيا أو اجتماعيا
ظل التعلم بهذه الطريقة سائدا لفترات طويلة وأطلق عليه التعلم بالتلقين، والتعلم التلقيني، حيث يتحول الطالب إلى مستودع للمعلومات، مستقبلا لها، غير مشارك في استجلابها، ولا أهميتها بالنسبة له. وفي هذا التعليم تمر العملية التعليمية باتجاه واحد من المعلم للطالب فقط، لذا ففي هذا النمط يعتبر المعلم هو المرجع والمصدر المعرفي الأوحد الذي يقدم المعلومة للطالب.
هناك نمط أخر من التعلم وهو التعلم الترددي، وهو أسلوب تعليمي يعتمد على تكرار المعلومات أو المهارات بشكل منتظم لتحقيق فهم أعمق واستيعاب أفضل، حيث أن تكرار المعلومات يسهم في ترسيخها في الذاكرة طويلة الأمد، ويصبح من السهل استرجاعها لاحقًا.
يُعتبر التعلم الترددي، تعلما فعالاً في تعزيز الذاكرة وتعزيز القدرات المعرفية، ويستخدم في مجالات متعددة مثل التعليم الأكاديمي والتدريب المهني. يستفيد هذا النمط من أنماط التعليم من خصائص الدماغ في معالجة المعلومات وتخزينها.
يخلط الكثيرون في الميدان التعليمي بين التعلم التلقيني والتعلم الترددي، فالتعلم التلقيني يعتمد على وجود المعلم وتفاعله مع الطالب مباشرة، بينما التعلم الترددي يمكن أن يمارسه الطالب منفردا بأي وسيلة من الوسائل، فيمكنه تكرار المعلومة شفاهية، أو حتى كتابية.
والفرق واضح بين النوعين، ففي اللغة:
لقن، من الجذر «ل ق ن».، ويعني تعليم أو إعطاء المعرفة للآخرين، وغالبًا ما يكون ذلك بشكل مباشر. وتُستخدم في سياقات تعليمية، حيث يشير إلى نقل المعلومات بشكل منظم.
ردد، من الجذر «ر د د». ويعني تكرار شيء ما، سواء كان كلامًا أو جملة، دون تغيير. وتُستخدم في سياقات تتعلق بالتكرار الصوتي أو الممارسات، مثل ترديد الأناشيد أو العبارات.
ورغم النظرة السلبية للتعلم التلقيني، إلا أنه يتميز بعدة مميزات، فهو يساعد على نقل المعرفة بسرعة، وتنظيم المحتوى بشكل منظم مما يسهل على الطالب استيعاب المعلومة، كما أنه يمكنه تحقيق الأهداف التعليمية بشكل مباشر، وإن كان في بعض الأحيان تحقق لحظي وليس دائما، كما أنه سهل التطبيق.
وكما يتميز التعلم التلقيني بمميزات، فإن التعلم الترددي أيضا له العديد من المميزات، فهو يساعد على تحسين الذاكرة، وزيادة الفهم، وتعزيز ثقة المتعلم في نفسه، إلى جانب توفير الوقت، فرغم أنه يتطلب وقتًا في البداية، إلا أنه يوفر الوقت على المدى الطويل من خلال تقليل الحاجة إلى إعادة التعلم.
يمكن القول إن التعلم الترددي يعتبر استراتيجية فاعلة لتعزيز الفهم واستثمار الذاكرة البشرية، فمن خلال تطبيق آلية التكرار، يمكن للمتعلمين تحسين أدائهم الأكاديمي والمهني.
مع ظهور تقنية الذكاء الاصطناعي، كان لابد للتعلم الترددي أن ينهل نصيبا منها، فعلى سبيل المثال: من خلال تحليل بيانات المتعلمين يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقدم محتوى مخصصا للمتعلم يعتمد على نقاط القوة والضعف، كما يمكنه تحديد المناطق التي يحتاج فيها المتعلم إلى مزيد من الممارسة، وذلك بناء على التكرار الموجه.
يساعد الذكاء الاصطناعي المعلمين في تتبع أداء المتعلمين بشكل دقيق، من خلال تقديم بيانات وإحصائيات واضحة ودقيقة، مما يمكنهم من استخدام هذه البيانات لتعديل استراتيجيات التعلم الترددي، مما يساعد في تحسين نتائج التعلم.
إن استخدام الذكاء الاصطناعي في التعلم الترددي، يمكن أن ينتج عنه مواد تعليمية تفاعلية تساهم في تحقيق أهداف التعلم، وتساعد المتعلمين على تجاوز رحلتهم التعليمية بسهولة ويسر.
لعل من أهم مميزات الدمج بين التعلم الترددي والذكاء الاصطناعي، إمكانية ممارسته ذاتيا من قبل المتعلم، حيث يعمل الذكاء الاصطناعي على تكرار المعلومة أمام المتعلم، وفي نفس الوقت قياس نضج فهم المعلومة من قبل المتعلم، وإعادة ضبط التعلم ليتناسب مع تقدمه سواء كان سريعا أم بطيئا، أم يحتاج تحسين.
يسهم الدمج بين التعلم الترددي والذكاء الاصطناعي في زيادة الفاعلية، حيث يتمكن المتعلمون من استيعاب المعلومات بشكل أسرع وأكثر دقة، كما أنه يشجع المتعلمين على اتخاذ زمام المبادرة في تعلمهم، ويحفزهم على التعلم الذاتي من خلال تقديم تحديات مناسبة، كما تتيح تقنيات الذكاء الاصطناعي للمتعلمين إمكانية الوصول إلى التعلم الترددي في مختلف المواقع والبيئات، مما يسهل التعلم المستمر.
رغم التوجه نحو الدمج بين التعليم والذكاء الاصطناعي؛ إلا أن دور المعلمين لازال قائما، فهم الركيزة الأساسية في العملية التعليمية، ومع هذا الدمج تتعزز أدوارهم في توجيه الطلاب وتحسين تجربة التعلم، فهم يعملون على تخصيص التعلم من خلال استخدام تحليل البيانات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي في تطوير محتوى مخصص للطلاب بناء على احتياجاتهم الفعلية، ورغم قيام الذكاء الاصطناعي بهذا الدور، إلا أن التدخل البشري ضروري للتأكد من عدم الانحراف التقني عن المستوى الفعلي للطالب نتيجة أي خلل تقني.
يظهر دور المعلمين جليا من خلال توجيه الطلاب نحو التعلم الذاتي، وتدريبهم على كيفية استخدام تقنيات التعلم الترددي بأنفسهم، وتوفير موارد إضافية عبر الإنترنت تسهم في تعزيز التعلم الذاتي.
يأتي الجانب العاطفي الذي تفتقده الآلات، ويوفره الإنسان، يأتي دور المعلم بشكل هام جدا، ويعزز وجوده في عملية التعلم الترددي باستخدام الذكاء الاصطناعي، فهو يعمل على تحفيز الطلاب، وتقديم الدعم النفسي والعاطفي لهم، مما يعزز دافعهم للتعلم، كما أنه يوفر بيئة تعليمية إيجابية، ويخلق جو من الثقة والتفاعل بينه وبين طلابه.
يعمل المعلم في هذا الإطار على تشجيع الطلاب على المشاركة في الأنشطة التي تتضمن تكرار المعلومات، وتنظيم الأنشطة الجماعية، مما يشجع الطلاب على العمل معًا في مشاريع تتطلب التعاون وتبادل المعرفة، وأيضا تشجيع المناقشات الجماعية بين المتعلمين من خلال تنظيمها لتعزيز التفاعل وتكرار المعلومات بشكل فعال.
إن الجمع بين التعلم الترددي والذكاء الاصطناعي يجسد مستقبل التعليم، فمن خلال الاستفادة من قوة الذكاء الاصطناعي، يمكن تحسين طرق التعلم وزيادة فعالية استيعاب المعلومات لدى المتعلمين، واختصار زمن رحلة التعلم لكل منهم، كما أن استثمار الوقت والموارد في هذا الاتجاه يمكن أن يغير طريقة التعلم للأجيال القادمة.
